المحاضرة السابعة
تتمَّات أقسام الضعيف 29/جمادى الآخرة /1425
ثالثاً _ الحديث المرسل : هو ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا من أجود التعاريف ؛ لأنه يعمّ ما أضيف إلى النبي من قول ، أو فعل ، أو تقرير ، أو صفة ؛ فعلى هذا من عرَّفه بأنه : ما قال فيه التابعي : قال النبي ، فتعريفه قاصر ؛ لأنه لا يشمل التقرير ، أو الصفة ، أو الفعل . وكذا من عرَّفه بأنه : ما سقط منه الصحابي ، فكذلك تعريفه غير جيد ؛ لأنّا لو كنَّا نعلم أن الصحابي وحده هو الساقط لما ضعفنا الحديث ، إذ العلة بالمرسل :خشية أن يكون التابعي قد سمعه من تابعي آخر ، ولا نعلم لهذا التابعي الآخر عدالةً ولا ضبطاً .
وأما التابعي الذي يروي المرسل : فهو الذي لقي بعض الصحابة ، وسمع منهم أحاديث ، ولا يشترط فيه أن يكون كبيراً كما اشترطه بعضهم .
أما التابعي الذي له رؤية لبعض الصحابة ، ولم يسمع من أحد منهم ، فهذا إذا روى شيئاً مباشرةً عن النبي ، فحديثه معضل ، وإذا روى شيئاً عن الصحابة فهو منقطع ؛ لأنّه ثبت له شرف التابعية ، لا أحكامها .
ومن هؤلاء : إبراهيم النّخعي ، والأعمش .
فإبراهيم النّخعي لقي عائشة ، ولم يسمع منها شيئاً ، والأعمش رأى أنساً ، ولم يسمع منه شيئاً .
وللفائدة : فإنَّ هذا التعريف للمرسل هو الذي استقر عليه الاصطلاح . أما السابقون : فكانوا يطلقون كلمة ( مرسل ) على كل منقطع .
فعلى هذا تكون طريقة تمييز المرسل بمجرد أن يعلم أنَّ الذي حدَّث به عن النبي صلى الله عليه وسلم تابعي ، وتمييز التابعين من غيرهم يعرف من كتب رجال الحديث .
حكم الحديث المرسل
اختلف أهل العلم في الاحتجاج بالمرسل على أقوال كثيرة ، أشهرها ثلاثة أقوال رئيسة :
القول الأول : إنَّ الحديث المرسل ضعيف ، لا تقوم به حجَّة . وهذا ما ذهب إليه جمهور المحدِّثين ، وكثير من أهل الفقه والأصول .
قال الإمام مسلم _ رحمه الله تعالى _ : (( والمرسل في أصل قولنا ، وقول أهل العلم بالأخبار ، ليس حجَّة )) .
وقال ابن الصلاح : (( وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل ، والحكم بضعفه ، هو الذي استقرَّ عليه آراء جماعة حفاظ الحديث ، ونقّاد الأثر ، وتداولوه في تصانيفهم )) .
وحجَّتهم : هو جهالة الواسطة التي روى المرسل الحديث عنه ، إذ قد يكون الساقط صحابياً ، وقد يكون تابعياً . وعلى الاحتمال الثاني : قد يكون ثقة ، وقد يكون غير ثقة ، قال الخطيب البغدادي : ( والذي نختاره : سقوط فرض العمل بالمرسل ، وأنَّ المرسل غير مقبول ، والذي يدل على ذلك : أنَّ إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه ، ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه ، وقد بيَّنا من قبل أنَّه لا يجوز قبول الخبر إلاّ ممن عرفت عدالته ، فوجب كذلك كونه غير مقبول ، وأيضاً فإنَّ العدل لو سئل : عمَّن أرسل ؟ فلم يعدله ،لم يجب العمل بخبره ، إذا لم يكن معروف العدالة من جهة غيره ، وكذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره ، وتعديله ؛ لأنَّه مع الإمساك عن ذكره غير معدل له ، فوجب أن لا يقبل الخبر عنه )) .
وقال الحافظ ابن حجر ، بعد أن ذكر المرسل في أنواع المردود : (( وإنَّما ذُكرَ في قسم المردود ؛ للجهل بحال المحذوف ؛ لأنَّه يحتمل أن يكون صحابياً ، ويحتمل أن يكون تابعياً ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً ، ويحتمل أن يكون ثقة ، وعلى الثاني يحتمل أن يكون حمل عن صحابي ، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعي ، وعلى الثاني فيعود الاحتمال السابق ، ويتعدد إمَّا بالتجويز العقلي ، فإلى ما لا نهاية ، وإمَّا بالاستقراء ، فإلى ستة ، أو سبعة ، وهو أكثر ما وُجدَ في رواية بعض التابعين عن بعض )) .
القول الثاني : يقبل المرسل من كبار التابعين دون غيرهم ، بشرط الاعتبار في الحديث المرسَل ، والراوي المرسِل . أمَّا الاعتبار في الحديث : فهو أن يعتضد بواحد من أربعة أُمور : أن يروى مسنداً من وجه آخر ، أو يُروى مرسلاً بمعناه عن راوٍ آخر لم يأخذ عن شيوخ الأول ؛ فيدلّ ذلك على تعدد مخرج الحديث ، أو يوافقه قول بعض الصحابة ، أو يكون قال به أكثر أهل العلم .
وأمَّا الاعتبار في راوي المرسل : فأن يكون الراوي إذا سمَّى من روى عنه لم يسمِ مجهولاً ، ولا مرغوباً عنه في الرواية . فإذا وجدت هذه الأمور كانت دلالة على صحة مخرج حديثه ، فيحتجُّ به . وهو قول الإمام الشافعي .
القول الثالث : يقبل المرسل ويحتجّ به إذا كان راويه ثقة .
وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، ورواية عن أحمد .
والقول الصحيح هو الأول ؛ لأنَّ المرسل فقد شرط الاتصال ، والاتصال شرطٌ رئيسيٌ في صحة الحديث ، وليس هناك فرق بين القول الأول والثاني ؛ لأنَّ أصحاب القول الأول متَّفِقون على أن المرسل ليس من الضعف الشديد ، يتقوى بالمتابعات والشواهد ، فالقول الثاني ليس هو ناف للقول الأول ، إلا أن الفرق أن الشافعي خصه بكبار التابعين ، وسبب جعله قسيماً للقول الأول ؛ أنَّنا لم نجد من فصَّله بهذا التفصيل الرائع ، وعُد هذا من مآثر الإمام الشافعي ، زيادة على أنَّ قضية تقوية الأحاديث تدرك بالمباشرة ، وجعل ذلك تحت قاعدة كلِّية، يتورع عنها كثير من الناس ، إذ لكل حديث حالته الخاصة لاسيما قضية تقوية الحديث بعمل أهل العلم به يتوقف فيها كثير من الناس .
مثال المرسل : ما رواه أبو داود في سننه ( 105 ) ، قال : حدَّثنا محمد بن سليمان الأنباري ، حدَّثنا كثير بن هشام ، عن عمر بن سليم الباهلي ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله : (( حصِّنوا أموالكم بالزكاة ، وداووا مرضاكم بالصدقة ، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع )) .
فهذا حديث مرسل ، فإنَّ الحسن البصري تابعي ، وقد أرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكر عمن سمعه ، فهو ضعيف من جهة إرساله ، وعدم اتصاله .
ومراسيل التابعين كلها ضعيفة ، لكنّها تتفاوت ، فبعضها أهون من بعض ، بحسب قدم التابعي المرسل ، وكبره ، أو صغره .
فكبار التابعين : الذين أدركوا كبار الصحابة كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وأكثر روايتهم إذا سمّوا شيوخهم عن الصحابة ، وهؤلاء مثل : قيس بن أبي حازم ، وسعيد بن المسيب ، ومسروق بن الأجدع ، ويندرج في جملتهم من يُطلق عليه اسم المخضرمين ، وهم التابعون الذين أدركوا الجاهلية و الإسلام ، لكنهم لم يثبت لهم شرف الصحبة ، مثل : سويد بن غفلة ، وعمر بن ميمون الأودي ، وأبي رجاء العطاردي .
فمراسيل هؤلاء الكبار أفضل من غيرهم ، واحتمال تقويتها بالمتابعات والشواهد ، أقوى وأسرع .
أمَّا الطبقة الثانية : فهم طبقة أواسط التابعين ، وهم الذين أدركوا علي بن أبي طالب ، ومن بقي حياً إلى عهده ، وبُعيده من الصحابة كحذيفة بن اليمان ، وأبي موسى الأشعري ، و أبي أيوب الأنصاري ، وعمران بن حصين ، وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة أُمّ المؤمنين ، وأبي هريرة ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن عمر ، و عبد الله بن عباس ، ووقع سماعهم من بعضهم ، ومن هؤلاء التابعين الأوساط الذين أدركوا بعض هؤلاء الصحابة : الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاووس اليماني ، وأبو سلمة بن عبد الرحمان ، وعامر الشعبي ، ومجاهد بن جبر .
فمراسيل هذه الطبقة دون مراسيل أصحاب الطبقة الأولى من كبار التابعين ، ولكنها تكتب للاعتبار ، وتتقوى بالمتابعات والشواهد .
أمَّا الطبقة الثالثة : وهم صغار التابعين ، وهم من أدرك وسمع ممن تأخر موته من الصحابة ، الواحد و الاثنين ، والعدد يسير ، كمن سمع من أنس بن مالك ، وسهل بن سعد ، وأبي أمامة الباهلي . ومن هؤلاء من التابعين الصغار : ابن شهاب الزهري ، وقتادة بن دعامة السدوسي ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وحُميد الطويل ، فمراسيل هؤلاء من أضعف المراسيل ، وهي أشبه أن تكون معضلة ؛ لأنَّ غالب روايات هؤلاء عن التابعين ، فإذا أرسل أحدهم فيغلب على الظن أنه أسقط من الإسناد رجلين فأكثر .
ومن أقوى المراسيل : مراسيل سعيد بن المسيب ، فقد تتبعت فوجد غالبها مسانيد ، ومن المراسيل الجيدة : مراسيل عروة بن الزبير ؛ لشدَّة تحرِّيه ، وكذلك مراسيل الحسن البصري عند بعضهم ، وكذا مراسيل عامر بن شراحيل الشعبي .
أمَّا مراسيل الصحابة : وهو ما وقع لبعض الصحابة ، ممّا لم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة ، إنما سمعوه من صحابة آخرين ، وهذا يحصل لصغار الصحابة ، مثل ابن عباس ، وأنس بن مالك ، فهذا مقبول عند جمهور المحدِّثين ؛ لأنَّ ما لم يسمعوه من النبي مباشرة ، فإنَّما سمعوه من صحابة آخرين ، والصحابة كلّهم عدول .